نزول القرآن وأسباب النزول


إذا درسنا القرآن الكريم سنجد فيه آيات تُعبَّر فيها مادة "الإنزال" واقترن معها ذكر شرف ذلك الكتاب المنزَّل وعلو منزِّله كما فى قوله "وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (الإسراء: 105)" وقوله "... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: 89)" وقوله " حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (غافر: 1-3)" لا تقع هذه الحال إلا فيها عبرة لكي نعلم أن القرآن الذي أُنزل على محمد هو الحق من ربه وينزَّل للناس تنزيلا متدرّجا وليكون هدى بما وقع فيهم من الأحوال الدنياوية والأخراوية. وقد اختار الله لإنزال كتابه الوقت الذي جاء وصفُه فى قوله تعالى " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (الدخان: 3)" وقوله "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1)" وقوله "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ...( البقرة: 185)" يدلّ ذلك على أن القرآن ينزل فى ليلة، فالليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم ليلة مباركة، وهي ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، وهي في شهر رمضان وهو الشهر الكريم المبارك.[1]
انطلاقا من هذه الفكرة، نعلم أنّ القرآن هو هدى وتبيان وورحمة وبشرى للمسلمين الذين يتدبّروه ويعملون بما فيه من الأوامر والنواهى. إذا نظرنا الأيات السابقة هناك كلمات تدل على تعبير إنزال القرآن وهي "نزل" و"نزّل" و"أنزل". توجد هذه الكلمات فى كثير من الأيات القرآن، أشار ذلك إلى أنّ فهم القرآن يرتبط بفهم إنزاله. ولكن ليس لكل أية من أيات القرآن سببَ نزولها ونلاحظ هنا أنّ أسباب النزول هي للأحكام ولتفصيل الكتاب، وليس للقرآن أسباب النزول.[2] لأنّ القرآن، كما قال محمد شحرور، فيه قوانين الوجود وقوانين التاريخ كما يُعرف بتاريخ التشريع، ونستنتج بالضرورة أنّ له وجودا مسبقا عن التنزيل لما قاله تعالى " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ*فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21-22)"
إذاً لا بد علينا أن نعرف معنى نزول القرآن وأسباب النزول، لأنّ العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن وأساس للتصديق بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام حق وهو أصل لسائر المباحث الآتية بعدُ فى علوم القرآن.[3] ولذلك سنبحث فى هذه المقالة عن نزول القرآن وأسباب النزول.
ولكن قبل نبحث فى نزول القرآن ينبغى علينا أن نفهم عن ما نزل الله على عبده من الوحي. وهاهنا البحث:
*    معنى الوحي وكيفية إلقائه
معنى الوحي: الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد وبإشارة ببعض الجوارح. والوحي مصدر، ومادة الكلمة تدل على معنيين أصليين، هما الخفاء والسرعة. ولذا قيل معناه: الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره. وهذا معنى المصدر يطلق ويراد به الموحى أي بمعنى اسم المفعول. ولم يبتعد عن المعنى الأصلى لمادة الوحي والإيحاء، فمنه:
1.     الإلهام الفطرى للأنسان كما فى قوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ...(القصص: ٧)
2.  الإلهام الغريزى للحيوان كما فى قوله: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (النحل: ٦٨)
3.  الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء كإيحاء زكريا فيما حكاه القرآن عنه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (مريم: ١١)
4.  وسواس الشيطان وتزيينه خواطر الشر للإنسان كما فى قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام: ١١٢)
5.  وما يلقيه الله إلى ملائكته من أمر ليفعلوه كما فى قوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (الأنفال: ١٢)
أما تعبير عما يكلف الله الملك لحمل القرآن إلى النبي فمنه قوله تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (النجم: ١٠) والمراد هو أن الله أوحى إلى عبده جبريل ملك الوحى الأمين، ما أوحاه (أي: القرآن) إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ومدلول الوحي إذن فى هذه الآية مدلول التنزيل الصريح فى الآية الأخرى وهي وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 192-١٩٥).[4] وذهب العلماء فى كيفية وحي الله تعالى إلى جبريل بالقرآن: أن جبريل تلقّفه سماعا من الله بلفظه المخصوص. بالنسبة إلى آية وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل: ٦) ولذلك القرآن هو كلام الله بألفاظه ومعناه لا كلام جبريل أو محمد.[5]
*    نزول القرآن
§        معنى نزول القرآن
النزول مصدر من نزل- يَنزِل فى استعمال اللغة يطلق ويراد به الحلول فى مكان والأوي به. كما قال العرب: "نزل الأمير المدينة". والمتعدّى منه هو الإنزال من أنزل- يُنزِل، يكون معناه إحلال الغير فى مكان وإيواءه كما قال الله تعالى: "وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (الإسراء: 29)". ويطلق النزول إطلاقا آخر فى اللغة على احدار الشيء من علو إلى سفل مثل: "نزل فلان من الجبل" والمتعدى منه يكون معناه تحريك الشيء من علو إلى سفل كما فى قوله تعالى " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً... (الحج: 63)"
ونعلم أن القرآن ليس جسما حسّيا حتى يحُلّ فى مكان أو ينحدر من علو إلى سفل. وإنما القرآن –كما عرفنا قبل التدوين- هو الكلمات الغيبية المنطوقية. إذاً فالنزول فى هذا البحث له المعنى المجازى وليس المعنى الحقيقى كما أنزل شيء مجنس من علو إلى سفل. فالإنزال القرآن بمعنى الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة لإنزاله فى اللوح المحفوط وفى بيت العزة من السماء الدنيا، وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقة بالنسبة لإنزاله على قلب النبي. والعلاقة بين المعنى الحقيقى والمعنى المجازى هي اللزوم، لأن إنزال شيء إلى شيء يستلزم إعلام مَن أنزل إليه ذلك الشيء به إن كان عاقلا.[6]
وقال محمد شهرور أن إنزال القرآن هو دفعة واحدة والذي جاء إلينا هو هذه الصياغة اللسانية بطريقة صوتية "الذكر" لا بطريقة خطية. كما فى قوله تعالى: "إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الواقعة: 77-٨٠) قال عن القرآن إنه فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ والمكنون هو المخبأ، ثم بعد ذلك قال تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فالآية هنا تعنى القرآن الأصل الموجود فى الكتاب المكنون والذي أخذت صورة عنه مترجمة إلى العربية "الجعل والإنزال". ثم جاء هذه الصورة إلينا عن طريق جبريل "التنزيل" منطوقةً لا مخطوطةً.[7]
§        ما أنزل به جبريل على محمد؟
قبل كل شيء ينبغى علينا أن نفهم الآيات الآتية:
1.  وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى: ٥١)
2.  إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (النساء: ١٦٤)
3.    وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (النجم: 1-٤)
4.  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الشورى: ٥٢)
نفهم من الآية الأولى (1) أن الله تعالى لايكلم الناس إلا من هذه الطرق الثالثة، وهي بالوحي، ومن وراء الحجاب، ومن رسول. وأما الوحي فهو الإعلام الخفى السريع كما قد سبق البحث. وكانت ظاهرة الوحي متماثلة عند الجميع لأن مصدرها واحد وغايتها واحدة كما شرح الله فى الآية الثانية (2). لذلك ما نزل على قلب محمد من القرآن هو الوحي كما أُوحي إلى النبيين من قبله وأكّدت على ذلك الآية الثالثة (3). إذاً ما شكل القرآن الذي نزل به جبريل؟ والجواب يكون فى الآية الرابعة (4) يعنى أن القرآن هو روح—فى لوح محفوظ— الذي أنزله الله إلينا نورا ليهدي به مَن يشاء من عنده. وأما الروح فهو من أمر ربنا، لا يعلمه إلا هو.
§        تنزلات القرآن
شرّف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلالة تنزلات وهي:[8]

أ‌.       التنزل الأول إلى لوح المحفوظ
دليله " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ*فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (البروج: 21-22)" وكان هذا الوجود لا يعلمه إلا الله. وحكمة هذه النزول ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه، وإقامته سجلّا جامعا لكل ما قضى الله وقدّر، ولا ريب أن الإيمان به يُقوّي إيمان العبد ورضاه بربه من هذه النواحى كما قال سبحانه وتعالى " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (البروج: 22-23)"
ب‌.   التنزل الثانى إلى بيت العزة فى السماء الدنيا
والدليل عليه قوله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (الدخان: 3)" وقوله "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1)" وقوله "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...( البقرة: 185)". دلّت هذه الآيات أنّ القرآن أُنزل فى ليلة واحدة. تُوصف بأنها مباركة كما فى سورة الدخان وهي ليلة القدر كما فى سورة القدر وهي فى شهر رمضان كما فى سورة البقرة. لا ينزل القرآن فى هذا النزول إلى محمد، ولكن كما يقوم عليه الدليل من الأخبار الصحيحة أنه فى البيت العزّة من السماء الدنيا، ومنها: أخرج البسائى والحاكم والبيهقى من طريق داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك فى عشر سنة". والحكمة من هذا النزول كما قاله السيوطى نقلا عن أبى شامة هي تفخيم أمره (أي القرآن) وأمر من نزل عليه بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، وبإنزاله مرتين—جملةً ومفرقًا—بخلاف الكتب السابقة التى قد كانت تنزل جملة مرة واحدة.  

ت‌.   التنزل الثالث على قلب النبى صلى الله عليه وسلم
إن القرآن لا ينزِل علينا مرة واحدة بل بالتدرج كما في قوله تعالى "وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا (الإسراء: 106)" قال مناع القطان: يدل التعبير بلفظ التنزيل عون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والنتجيم.[9] وكان هذا النزول بواسطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ودليله " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 192-١٩5)"
§        الحكمة من هذه التنزلات
كما ورد فى القرآن " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا *وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (الفرقان: 32-٣٣)" فقد نعلم أن الحكمة العظيمة من هذه التنزلات منها:
1.    تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وشرح صدره فى دعوته وواجهه من تحديات خطيرة.
2.    تيسير لحفظ القرآن وفهمه على النبى والمسلمين
3.    معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم (كما وقع فى تحريم الخمر).
4.    تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
5.  أن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه. فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته. إذا لا يمكن معرفة تفسير الأية دون الوقوف على قصتها وبيان نزلها.
6.    مسايرة الحوادث والوقائع والتنبيه عليها فى حينها.
7.    الإرشاد إلى مصدر القرآن، وأنه تنزيل الحكيم الحميد.[10]
§        أوّل ما نزل من القرآن
قد اشتهر أن أول ما نزل من القرآن هو خمس آيات من أول سورة العلق وهي " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1-٥). هذه الرواية من عائشة أم المؤمنين ورواها البخارى ومسلم (واللفظ للبخارى) هذا حديث مرفوع.
§        آخر ما نزل من القرآن
وردت علينا الرواية المشهورة بأن آخر ما نزل من القرآن هو أية "... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ... (المائدة: ٣)" مع أن هذه الأية نزلت يوم الجمعة فى يوم العرفة فى حجة الوداع سنة العاشر من الهجرة.[11] وإن النبي عاش بعدها أحدا وثمانين يوما. وجاءت الرواية الراجحة من الرواية السابقة وهي أشارت إلى أن آخر ما نزل من القرآن هو " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (البقرة: ٢٨١)" بالدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال فقط. قال ابن جرير فى تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة: "الأولى أن يُتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه، حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون" كما ورد فى سورة براءة عن النفى للمشركين عن البيت، فحج المسلمون لا يشركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين. فكان ذلك تمام النعمة "وأتممت عليكم نعمتي". وأما السورة الآخيرة التى نزلت هو السورة التوبة.[12]
*      أسباب النزول
قد وضح فى البيان السابق أن القرآن قسمان قسم نزل من الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة، وإنما هو لمحض هداية الخلق إلى الحق الذي أنزل الله إلى البيت العزة، وقسم نزل مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة. ونبحث الآن فى أسباب نزول آيات القرآن غير أنا لا نريد أن نستعرض جيع الآيات التي جاءت على الأسباب.
§        معنى أسباب النزول
كما قاله الزرقانى عن تعريف سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثةً عنه أو مبينةً لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو سؤال وُجّه عليه، فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يَتّصل بتلك الحادثة أو جواب هذا السؤال.[13] وذهب صبحى الصالح إلى أن سبب النزول هو قصة تستمدّ من الواقع عرصها وحلّها، وعقدتها وحبكتها، وأشخاصها وأحداثها، وبالغرض لجعل آيات القرآن تُتلى فى كل زمان ومكان بشغف ووَلوع.[14] نعلم الآن أن أسباب النزول هي القصة الخلفية عند نزول آية أو آيات من القرأن الكريم التي اعتمدنا عليها لنفهم ما تريد به الآية.
إن كلمة "أيام وقوعه" فى تعريف سبب النزول قيدٌ لا بد منه للاحتراز عن الآتة أو الآيات التي تنزل ابتداء بلا سبب خاص، بينما هي تتحدث عن بعض الوقائع والأحوال الماضية كبعض قصص الأنبياء السابقين وأممهم وكالحديث عن الساعة وما يتصل بها وهو كثير فى القرآن.[15]
§        فوائد معرفة أسباب النزول
ومن الآيات ما نزل بعد أسباب خاصة، ومنها ما نزل على ضوء السبب العام لحكمة يعلمها الحكيم الخبير. ومن الفوائد من معرفة أسباب النزول الأهمية هي كما يلى:
1.  بيان الحكمة التى دعت إلى تشريع حكم من الأحكام، وإدراك مراعاة الشرع للمصالح العامة فى علاج الحوادث رحمة بالأمة.
2.  تخصيص حكم ما نزل إن كان بصيغة العموم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. مثل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..." فإن سبب نزولها أن قوما أرادوا الخروج للجهاد، فمنعهم أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم أنزل فى بقيتها ما يدلّ على الرحمة وترك المؤاخذة. "...وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التغابن: ١٤)"[16]
3.  إذا كان لفظ ما نزل عاما وورد دليل على تخصيصه فمعرفة السبب تقصر التخصيص على ما عدا صورته. كما فى الآية التي يذكر فيها أن لعنة الله على القاذف حتى يوم القيامة ولا توبة له، وهي: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور: 23-٢٤) مع أن هذه الآية نزلت فى عائشة خاصة أو سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط يخالف الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (النور:4-٥) فالقاذف فى هذه الآية له توبة إذا تاب وأصلح بعد ذلك.
4.  معرفة سبب النزول خير سبيل لفهم معانى القرآن وكشف الغموض الذي يكتنف بعض الآيات فى تفسيرها ما لم يعرف سبب نزولها.
§        طريق معرفة أسباب النزول
طريق معرفة سبب النزول هو النقل الصحيح عن الصحابة الذين عاصروا النزول، ووقفوا على الواقع والملابسات، ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الروايات أو الجمع بينها فيما ظهره التعارض منها. وعلى هذا، فإن روى سبب النزول صحابى فهو مقبول، لأن قول الصحابى له حكم الحديث المرفوع فيما لا مجال للإجتهاد فيه. [17]
1.  إذا اتفق ما نزل مع السبب فى العموم، أو اتفق معه فى الخصوص، حمل العموم على عمومه والخصوص على خصوصه. والمثال قوله تعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (البقرة: ٢٢٢). عن أنس قال: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها فى البيوت، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تلك الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جامعوهن فى البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح" (أخرجه مسلم وأهل السنن وغيرهم)[18]
2.    أما إذا كان السبب خاصا ونزلت الآية بصيغة العموم فقد اختلف الأصوليون:
أ‌.   فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب. فالمثال فى نزول آية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ *وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (النور: 6-٩) نزلت هذه الآية فى حادثة هلال بن أمية الذي قذف امرأته وليس له أربع شهداء. فيتناول الحكم المأخوذ من هذا اللفظ العام غير حادثة هلال دون احتياج إلى دليل آخر.
ب‌. وذهب غيرهم أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، ولا بد من دليل آخر لغيره من الصور كالقياس ونحوه، حتى يبقى لنقل رواية السبب الخاص فائدة ويطابق السبب والمسبب وكما يطابق السؤال والجواب.[19]








المراجع
القرآن الكريم.
الزرقانى، محمد عبد العظيم. مناهل العرفان فى علوم القرآن. دار الكتاب العلمية: بيروت،2010. 
الزركشى، بدر الدين محمد بن عبد الله. البرهان فى علوم القرآن. المكتبة العصرية: بيروت، 2004.
سعيد، محمد رأفت. تاريح نزول القرأن الكريم. دار الوفاء: ، 2002.
السيوطى، جلال الدين. الإتقان فى علوم القرآن. دار الفكر: بيروت.
شحرور، محمد. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. الأهالى للطباعة والنشر والتوزيع: دمشق،1997.
الصالح، صبحى. مباحث فى علوم القرآن. دار العلم للملايين: بيروت، 1988.
القطان، مناع خليل. مباحث فى علوم القرآن. مؤسسة الرسالة: رياض، 1993.
لاشين، موسى شاهين. اللآلئ الحسان فى علوم القرآن. دار المشروق: مصر، 2002.
النيسابورى، أبى الحسن على بن الحمد الواحدى. أسباب النزول. دار الفكر: بيروت، 1994.




[1]محمد رأفت سعيد، تاريح نزول القرأن الكريم (دار الوفاء: ، 2002)، ص. 34-38.
[2]محمد شحرور، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة (الأهالى للطباعة والنشر والتوزيع: دمشق،1997)، ص. 92.
[3] محمد عبد العظيم الزرقانى، مناهل العرفان فى علوم القرآن (دار الكتاب العلمية: بيروت،2010)، ص. 29.
[4] صبحى الصالح، مباحث فى علوم القرآن (دار العلم للملايين: بيروت، 1988)، ص. 24.
[5]مناع خليل القطان، مباحث فى علوم القرآن (مؤسسة الرسالة: رياض، 1993)، ص. 34-36.
[6] محمد عبد العظيم الزرقانى، مناهل العرفان، ص. 30.
[7] محمد شهرور، الكتاب والقرآن :قراءة معاصرة، ص. 155-156.
[8] الزرقانى، مناهل العرفان فى علوم القرآن، ص. 45-47.
[9] مناع خليل القطان، مباحث فى علوم القرآن، ص. 105.
[10] جلال الدين السيوطى، الإتقان فى علوم القرآن (دار الفكر: بيروت)، ص. 29 وانظر الزرقانى، مناهل العرفان فى علوم القرآن، ص. 53-62.
[11] أبى الحسن على بن الحمد الواحدى النيسابورى، أسباب النزول (دار الفكر: بيروت، 1994)، ص. 105 وانظر مناهل العرفان، ص. 102.
[12] الزرقانى، مناهل العرفان فى علوم القرآن، ص. 103.
[13] نفس المرجع، ص. 106.
[14] صبحى الصالح، مباحث فى علوم القرآن، ص. 130.
[15] الزرقانى، مناهل العرفان فى علوم القرآن، ص. 108.
[16] بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى، البرهان فى علوم القرآن (المكتبة العصرية: بيروت، 2004)، ص. 37.
[17] موسى شاهين لاشين، اللآلئ الحسان فى علوم القرآن (دار المشروق: مصر، 2002)، ص. 133.
[18]مناع خليل القطان، مباحث فى علوم القرآن، ص. 83.
[19]نفس المرجع، ص. 84.

0 comments:

Copyright © 2013 hanifa ilayya and Blogger Templates - Anime OST.